فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة {إن الله لعفو غفور} تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} دون الزيادة في الانتقام مع أن البادىء أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قَضَيَا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق.
ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له: بم دام ملككم؟ فقال: لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغَضب، فليس ذكر وصفي {عفو غفور} إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.
ويجوز أن يكون تعليلًا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعًا للتعليل في قوله: {إن الله لعليم حليم} [الحج: 59] لأن الكلام مستمر في شأنهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}.
ليس اسم الإشارة مستعملًا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدّين على ضدّه وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة، فضرب له مثلًا بتغليب مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها، لما تقرر من اشتهار التضادّ بين الليل والنهار، أي الظلمة والنور، وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرّار السُّلَمي:
وكتيبَةٍ لبّسْتُها بكتيبة حتى ** إذا التَبست نفضتُ لها يدي

فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله: {بأن الله يولج الليل} إلخ.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريرًا لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة {بأن الله يولج الليل في النهار} الخ، مرتبطة بجملة {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} الخ، ولذلك يصح جعل {بأن الله يولج الليل في النهار} الخ متعلقًا بقوله: {لينصرنه الله} [الحج: 60].
والإيلاج: الإدخال.
مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيهًا لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر، فإيلاج الليل في النهار: غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل، وإيلاج النهار في الليل: غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار. فالمُولج هو المُختفي، فإيلاج الليل انقضاؤه.
واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجًا، وكذلك تقلّص ضوء النهار يحصل تدريجًا، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلًا فيه شيئًا فشيئًا.
والباء للسببية، أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلّة المسلمين، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حينًا بعد أن كان أمرهما على العكس حينًا آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي، فصار حاصل المعنى: ذلك بأن الله قادر على نصرهم.
والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلّب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالبًا، ويصير ذلك الغالب مغلوبًا. مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادّة ولا تلزم طريقَة واحدة كقدرة الصناع من البشر.
وفيه إدماج التنبيه بأنّ العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل.
وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقادٍ، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة، ولأنّ الإيمان نور يتجلّى به الحق والاعتقاد الصحيح، فصاحبه كالذي يمشي في النهار، ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل، أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك، ولذلك ابتدىء في الآية بإيلاج الليل في النهار، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار.
وقوله: {ويولج النهار في الليل} تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية.
وتقدم في سورة [آل عمران: 27] {تولج الليل في النهار} وعُطف {وأن الله سميع بصير} على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من عَلم أنه ناصره لا محالة، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}.
اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف.
ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعَل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نَصْرَهم ولا أنفسَهم يَنصُرون. وهذا على حمل الباء في قوله: {بأن الله هو الحق} على معنى السببية، وهو محمل المفسرين.
وسيأتي في سورة لُقمان في نظيرها: أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل}.
والحق: المطابق للواقع، أي الصدق، مأخوذ من حَقّ الشيءُ إذا ثبَت: والمعنى: أنه الحق في الإلهيّة، فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي.
وأما القصر في قوله: {وأن ما تدعون من دونه هو الباطل} المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائيّ لعدم الاعتداد بباطللِ غيرها حتى كأنه ليس من الباطل.
وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأنّ المقام مقام مناضلة وتوعد، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضًا.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر {تَدْعُون} بالتاء الفوقيّة على الالتفات إلى خطاب المشركين لأنّ الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم، وقرأ البقية بالتحتية على طريقة الكلام السابق.
وعلوّ الله: مستعار للجلال والكمال التام.
والكِبر: مستعار لتمام القدرة، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}.
ذكر غير واحد من المفسرين: أن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} [الحج: 60] الآية أي ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته، ومن علامات قدرته الباهرة: أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار، ومصرفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار، وأنه سيمع لما يقولون، بصير بما يفعلون: أي وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما، والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق: أي الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده، وأَن كل ما يدعى إلهًا غيره باطل وكفر، ووبال على صاحبه، وأنه جل وعلا هو العلي الكبير، الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا.
وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا. بقوله: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار} الآية، ولآخره بقوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} الآية.
والأظهر عندي: أن الإشارة في قوله ذلك: راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم، وأنها ترجع لقوله: {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 56] إلى ما ذكره من نصرة المظلوم: أي ذلك المذكور من كون الملك له وحده، يوم القيامة، وأنه الحاكم وحده بين خلقه، وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين، والناصر من بغى عليه من عباده المؤمنين، بسبب أن القادر على كل شيء، ومن أدلة ذلك: أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا. وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان، مبينًا أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى، وخلق الناس {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28].
ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} [لقمان: 29- 30] فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته، استدل بها على قدرته في الحج، وفي لقمان. وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان.
الأول: وهو قول الأكثر: من أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر، إنما هو بإدخال جزء منه فيه، وبذلك يطول النهار في الصيف، لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء: لأنه أولج فيه شيء من النهار، وهذا من أدلة قدرته الكاملة.
المعنى الثاني: هو أن إيلاج أحدهما في الآخر، هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك، بغيبوبة الشمس. وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج، ويظلم بفقده. ذكر هذا الوجه الزمخشري، وكأنه يميل إليه والأول أظهر، وأكثر قائلًا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل} قرأه حفص وحمزة والكسائي: يدعون بالياء التحتية، وقرأه الباقون: بتاء الخطاب الفوقية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ }.
{ذلك} [الحج: 60] يعني: هذا الأمر الذي تحدثنا فيه قد استقر، وإليك هذا الكلام الجديد {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ } [الحج: 60].
الحق- سبحانه وتعالى- خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلافته في الأرض بحركات متوازنة، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة، هذه العواطف لا يحكمها قانون. وخلق لنا أيضًا غرائز ولها مهمة، لَكِن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق، فإياك أنْ تتعدى بغريزتك إلى غير المهمة التي خلقها الله لها.
فمثلًا، غريزة حب الطعام جعلها الله فيك لاستبقاء الحياة، فلا تجعلها غرضًا أصيلًا لذاتها، فتأكل لمجرد أنْ تلتذَّ بالأكل؛ لأنها لذة وقتية تعقبها آلام ومتاعب طويلة. وهذه الغريزة جعلها الله في النفس البشرية منضبطة تمامًا كما تضبط المنبّة مثلًا، فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته، وإنْ عطشتْ مالتْ نفسك نحو الماء، وكأن بداخلك جرسًا يُنبِّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقومات استبقائها.
حب الاستطلاع غريزة جعلها الله فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة الله وعظمته، فلا تتعدى هذا الغرض، ولا تحرِّك هذه الغريزة إلى التجسُّس على الخَلْق والوقوف على أسرارهم.
التناسل غريزة جعلها الله لحِفْظ النوع، فلا ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرَّم الله.
الغضب غريزة وانفعال قَسْري لا تختاره بعقلك تغضب أو لا تغضب، إنما إنْ تعرضتَ لأسبابه فلا تملك إلا أنْ تغضب، ومع ذلك جعل له حدودًا وقنَّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع.
الحب والكُرْه غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون، ولا يحكمها العقل، فلك أن تحب وأن تكره، لَكِن إياك أنْ تتعدَّى هذه العاطفة إلى عمل عقليٍّ ونزوع تعتدي به أو تظلم.
لذلك يقول تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } [المائدة: 8].
لأن هذه المسألة لا يحكمها قانون، وليس بيدك الحب أو الكره؛ لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل أخيه قال له عمر: أَدِرْ وجهك عني فإنِّي لا أحبك. وكان الرجل عاقلًا فقال لسيدنا عمر: أَوَ عَدمُ حبك لي يمنعني حقًّا من حقوقي؟ قال عمر: لا، فقال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. يعني أحب أو اكره كما شئت، لَكِن لا تتعدَّ ولا تحرمني حقًّا من حقوقي.
فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأملتَ مثلًا الغريزة الجنسية التي يصِفُها البعض بِمْلء فيه يقول: غريزة بهيمية.. سبحان الله أَلاَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها لا تتكلّم، وهي أفهم لهذه الغريزة منك، أَلاَ تراها بمجرد أن يُخصِّب الذكَر أُنثاه لا يقربها أبدًا، وهي لا تمكِّنه من نفسها إذا ما حملَتْ، في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة، وتنطلق فيها انطلاقًا يُخرِجها عن هدفها والحكمة منها؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة، وألاَّ يظلم البهائم، فمن الناس مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير.
وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطعام والشراب.
إذن: الخالق سبحانه خلق الغرائز فيك، ولم يكبتها، وجعل لها منافذ شرعية لتؤدي مهمتها في حياتك؛ لذلك أحاطها بسياج من التكليف يُنظِّمها ويحكمها حتى لا تشرد بك، فقال مثلًا في غريزة الطعام والشراب: {يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } [الأعراف: 31].
وقال في غريزة حب الاستطلاع: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [الحجرات: 12] وهكذا في كل غرائزك تجد لها حدودًا يجب عليك ألاَّ تتعداها.
لذلك قلنا في صفات الإيمان وفي صفات الكفر أن الله تعالى يصف المؤمنين بأنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29] لأنهم يضعون كل غريزة في موضعها فالشدة مع الأعداء، والرحمة مع إخوانهم المؤمنين، ويقف عند هذه الحدود لا يقلب مقاييسها، ويلتزم بقول الحق سبحانه وتعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [المائدة: 54].
وكأن الخالق عز وجل يُسوِّينا تسوية إيمانية، فالمؤمن لم يُخلَق عزيزًا ولا ذليلًا، إنما الموقف هو الذي يضعه في مكانه المناسب، فهو عزيز شامخ مع الكفار، وذليل مُنكسِر متواضع مع المؤمنين.
ويتفرع عن هذه المسألة مسألة ردِّ العقوبة إذا اعتُدِي عليك: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله } [الحج: 60].
الحق- سبحانه وتعالى- هو خالق النفس البشرية، وهو أعلم بنوازعها وخَلَجاتها؛ لذلك أباح لك إن اعتدى عليك أنْ تردَّ الاعتداء بمثله، حتى لا يختمر الغضب في نفسك، وقد ينتج عنه ما هو أشد وأبلغ في ردِّ العقوبة، يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ولا تتفاقم، فمَنْ ضربك ضربة فلك أنْ تُنفِّس عن نفسك وتضربه مثلها، لك ذلك، لَكِن تذكرَّ المثلية هنا، لابد أن تكون تامة، كما قال سبحانه في موضع آخر: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126].
وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فتردّ الضربة بمثلها؟ وهل قوتك كقوته، وحِدَّة انفعالك كحِدَّة انفعاله؟ ولو حدث وزدْتَ في ردِّك نتيجة غضب، ماذا تفعل؟ أتسمح له أنْ يردَّ عليك هذه الزيادة؟ أم تكون أنت ظالمًا معتديا؟
إذن: ماذا يُلجئك لمثل هذه المتاهة، ولك في التسامح سِعَة، وفي قول الله بعدها: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] مَخْرج من هذا الضيق؟